مقالات

«الجمعية الجغرافية»… الوقف الخديوي الذي صنع العقل العلمي المصري منذ 1875

تُعد الجمعية الجغرافية المصرية – أو العربية – واحدة من أهم ركائز القوة الناعمة للدولة المصرية، وأبرز نماذج الوقف العلمي الذي رسّخ دعائم المعرفة، وشكّل العقل البحثي المصري منذ تأسيسها في العصر الخديوي. وقد أُنشئت الجمعية بجوار مبنى مجلس الشورى التاريخي لتكون شاهدًا على مرحلة فريدة من النهضة العلمية والثقافية التي أطلقها الخديوي إسماعيل، في سياق مشروعات كبرى كان أبرزها شريان مصر الحيوي «قناة السويس».

وقف علمي ذو تأثير ممتد

الجمعية الجغرافية ليست مجرد مؤسسة بحثية، بل وقف ديني وعلمي متشابك مع أجهزة الدولة المختلفة—الدينية والخدمية والصناعية—وتُعد ذراعًا للتخطيط ودعم صنع القرار من خلال الدراسات والخرائط والتحليلات العلمية. وقد أنشأ الخديوي إسماعيل متحف الجمعية عام 1875 بهدف تشجيع الاستكشاف الجغرافي ورصد أقاليم مصر وإفريقيا، وتوثيق تاريخ المكان والإنسان.

وما زال متحف الجمعية حتى اليوم يضم قاعات ملكية، ومكتبة ثرية، وخرائط نادرة، ووثائق محورية تشكل جزءًا مهمًا من الذاكرة الوطنية. كما تُفتتح به معارض ثقافية وعلمية مثل «تراث الخط العربي بين تركيا ومصر».

مركز علمي رائد عالميًا

تُصنف الجمعية الجغرافية المصرية كأقدم جمعية جغرافية خارج أوروبا والأمريكيتين، والتاسعة عالميًا، والأولى في إفريقيا. ويستند الباحثون والجهات الرسمية إلى أرشيفها في الملفات الحساسة مثل ترسيم الحدود، والدوائر الانتخابية، والمشروعات القومية.

ومن أبرز رموز الجمعية الفلكي الكبير محمود باشا الفلكي، الذي تعتمد عليه دار الإفتاء المصرية في حسابات رؤية الهلال والميقات. وقد أوقف لها راتب باشا 600 فدان بالبحيرة لدعم أنشطتها العلمية.

أعمال وفكر وأبحاث صنعت تاريخ مصر

تحتضن الجمعية إرثًا علميًا ضخمًا، أبرزها:

  • خرائط نادرة من القرنين الثامن عشر والتاسع عشر

  • وثائق جغرافية تُستشهد بها في القضايا الدولية

  • مكتبة كاملة للوثائق والإحصاءات والسكان

  • المجموعة البحثية الأشهر «شخصية مصر» لجمال حمدان

  • موسوعات نهر النيل وقناة السويس

  • دراسات تخطيطية تعتمد عليها الدولة في العمران والمدن الجديدة

كما تصدر الجمعية مجلة علمية سنوية، تضم أبحاثًا محكمة تعالج قضايا التنمية والتخطيط.

تفاعل مع الحاضر والمستقبل

رغم أنها مؤسسة عمرها قرابة 150 عامًا، إلا أن الجمعية الجغرافية لا تزال في قلب التحول الرقمي الحديث، عبر:

  • تطوير تقنيات نظم المعلومات الجغرافية (GIS)

  • ورش العمل والعروض التطبيقية

  • تحليل البيانات الجغرافية لدعم التنمية

  • تقديم رؤى لتخطيط المشروعات القومية

وتضم الجمعية نخبًا علمية مؤثرة تجمع بين الأدوار الأكاديمية والتنفيذية، مثل رئيسها الحالي الدكتور محمد زكي السديمي، وقيادات أخرى في المجلس الأعلى للثقافة وجامعات مصرية مرموقة.

متحف متعدد القاعات والكنوز

يُعد متحف الجمعية الجغرافية كنزًا ثقافيًا فريدًا، ويضم:

  • قاعة الهوايات والتقاليد المصرية (أدوات، ملابس، تمائم، ألعاب)

  • قاعة منشورات حديثة وتماثيل من أقاليم مصر

  • قاعة البعثات العلمية المزينة بعاج الفيل وبها حيوانات محنطة وأدوات صيد إفريقية

  • قاعة قناة السويس المهداه من الشركة، وبها خرائط وماكيتات نادرة

  • مكتبة ضخمة بالدور العلوي تشمل موسوعات وإحصاءات وخرائط فوتوغرافية

الجمعية ليست مجرد متحف؛ بل عقل علمي ومرجع وطني يحتاج إلى تسليط الضوء عليه باستمرار، لما يمثله من قيمة علمية وثقافية وتاريخية فريدة.


اظهر المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى